كتاب الجراد الصحراوي
الإنسان حقق في القرن الأخير تقدمًا علميًا باهرًا وتفوقًا تكنولوجيًا ظاهرًا، مكنه من بسط سلطانه وفرض سيطرته على كافة أرجاء المعمورة واستخراج ثرواتها الظاهرة والكامنة، ثم استغلالها لتحقيق أمنه ورفاهيته، فها هو ذا يرسل السفن الفضائية والأقمار الاصطناعية التي تجوب الكون، تسبر أغواره وتستكشف أسراره، ها هو ذا يجلس متكئًا على أريكته في قعر بيته، وبلمسة من أصبعه على جهاز التحكم عن بعد يرى ما يشاء، وسمع ويتحدث ويتواصل مع من يشاء، وينعم بالدفء في البرد القارص وينعم بالنسيم البارد في الحر القائظ، وعلى الرغم من نجاح الإنسان الباهر في جميع المجالات وقف هذا الإنسان بلا حول ولا قوة أمام الحشرات.
فالحشرات كائنات صغيرة الحجم، لا تعرف الكسل ولا يصيبها الملل أو الوهن، تجوب العالم شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، دون أن تعترف بحدود إقليمية ولا تعبأ بموانع أو سدود أو جنسيات، منها ما يمخر عباب عذب الأنهار وأجاج البحار ومنها ما يمتطي ظهر الريح متى شاء وأنى شاء، ومنها ما يدب على سطح الأرض، ومنها ما يلج في باطنها، تجدها في السهول المنبسطة وعلى قمم الجبال الشاهقة وفي باطن الكهوف المُظلمة، منها ما يسكن الحدائق الغناء بين الورود والرياحين ومنها ما يعيش في القبور المُظلمة يقتات على جيف الإنسان والحيوان، ومنها ما يعيش في أنفاق داخل النباتات والأشجار ومنها ما يستطيع العيش في المناطق الشديدة البرودة، فقد وجد العلماء أكثر من 300 نوع منها في القطب الشمالي، ومنها ما يعيش في صحراء قاحلة مثل بعض مناطق الصحراء الليبية التي قد تجاوز درجة الحرارة فيها 60 درجة مئوية، كما وجد العديد من أنواعها في عيون المياه الحارة، بل وبرك النفط ووجدت منها بعض الأنواع التي تعيش بصفة دائمة على سطح الماء في المحيطات.
لقد فاقت تلك الكائنات جميع المخلوقات في عدد أنواعها، إذ فاقت أنواعها المليون، وهي تمثل 76% من المجموع الكلي للمملكة الحيوانية و 51% من جميع أنواع الكائنات الحية، توشك أن تنظر إلى السماء وتخاطب الماء الذي في السحاب قائلة له: شرق أو غرب فإن لي من الخير الذي تفيض به نصيب، ولا شك أن هذا النجاح الساحق لهذه المجموعة من الكائنات وانتشارها الكبير له أسباب عديدة، فهي صغيرة الحجم، قليل من الغذاء يكفيها وشق صغير في الأرض يأويها، لها هيكل أقوى من العظام وعضلات مفتولة تستطيع بها أن تحمل عشرات أضعاف وزنها، ويعتبر الجراد كأحد الحشرات التي تصيب معظم الشعوب بالهلع والفزع لرؤية أسرابها؛ لأنها تقضي على الأخضر واليابس وتضر بمزروعاتها، بينما الجانب الآخر لها فائدة كبيرة للإنسان؛ حيث يتغذى عليه كثير من الشعوب ويعرفون قيمته الغذائية ويشعرون بالفرح عند رؤية أسراب الجراد.
ويعتبر الجراد الصحراوي Schistocerca gregaria أكثر الآفات المهاجرة تدميرًا في العالم استجابة للمنبهات البيئية، وهو عبارة عن آفات آكلة نَهمة، تستهلك مثل وزنها في اليوم، وتستهدف المحاصيل الغذائية والغطاء النباتي الذي يستخدمه الرعاة علفًا، ويُمكن لسرب واحد من الجراد أن يستهلك ما يعادل استهلاك 35 ألف شخص من المواد الغذائية في اليوم الواحد، لذلك عندما تصبح الأسراب كبيرة وواسعة الإنتشار، فإنها تُشكل تهديدًا رئيسيًا للأمن الغذائي وسبل المعيشة الريفية.
ويسبب موسم تكاثر وهجرة الجراد لبعض دول العالم ومنها أقطار عربية عدة صداعًا مزمنًا، تتكرر نوباته مع إغارة أسرابه على حدودها، ملتهمه للمحاصيل الزراعية، ومهددة لحياة الإنسان والحيوان، وتزيد أنواعه على 20000 نوع في العالم، لكن أخطرها على دول الشرق الأوسط، هي فصيلة الجراد الصحراوي، التي تنمو في الأماكن الرطبة، وتهاجر بعد تكاثرها عبر الحدود مستهدفه الأخضر واليابس.
يعد الجراد جزء من مجموعة كبيرة من الحشرات تسمى عادة الجنادب ، لكن يختلف الجراد عن الجنادب، فهو يستطيع تغيير سلوكه وعاداته ويمكن أن يهاجر على مسافات طويلة، يمكنه تشكيل أسراب كثيفة بسرعة، ويمكن أن يطير بسرعة تبلغ 150 كلم في اليوم، عندما تكون الرياح المواتية، يمكن أن تلتهم هذه الأسراب كميات كبيرة من النباتات والمحاصيل ويمكن أن يتراوح انتشار أسراب الجراد أقل من كيلومتر مربع واحد إلى أكثر من 1000 كيلومتر مربع، ويشمل كل كيلومتر مربع من السرب ما بين 40 مليون وأحيانًا ما يصل إلى 80 مليون من الجراد البالغ، ويمكن للجراد إلتهام كميات كبيرة من النباتات كل يوم، لذلك من السهل أن نرى الأثر الذي يمكن أن يحدثه غزو الجراد على الأمن الغذائي في المناطق المتضرر، إذا حدث غزو الجراد هذا، يستلزم عدّة سنوات ومئات الملايين من الدولارات للسيطرة عليه.
ويكلف الجراد دول العالم ملايين الدولارات بشكل سنوي، لرصد انتشاره على الأرض، ورسم خرائط للمناطق الزراعية المتوقع أن يهاجمها، وثم مكافحته باستخدام المبيدات الحشرية والحرق في دول المنشأ قبل أن تقوى أسرابه على الطيران والبحث عن غذاء.
إعداد : د. عبدالعليم سعد سليمان دسوقي
قسم وقاية النبات – كلية الزراعة – جامعة سوهاج